استخدمت الولايات المتحدة الأميركية على نحو متزايد، خلال العقود الماضية، ومنذ أن رسخت هيمنتها على النظام الدولي القائم، سلاح العقوبات الاقتصادية، كأداة فعّالة ضمن أدوات الضغط السياسي والاقتصادي بسياساتها الخارجية، ولإجبار الأطراف الأخرى (الخصوم) إلى الامتثال للقواعد التي ترسيها واشنطن، مستغلة في ذلك وضعها الاقتصادي وما تمتلكه من أدوات ضغط، وتغلغل الدولار في مفاصل الاقتصاد العالمي.
وما العقوبات المفروضة على روسيا، لا سيما بعد الحرب في أوكرانيا منذ الرابع والعشرين من شهر فبراير من العام الماضي 2022، وكذلك العقوبات المفروضة على الصين، في ضوء المنافسة التجارية الشرسة بين أكبر اقتصادين في العالم، ومن قبلهما العقوبات المفروضة على إيران على ضوء برنامجها النووي، إلا حلقات متتالية في مسلسل العقوبات الأميركية المثير للجدل على مدى عقود، والذي تصاحبه أدوات اقتصادية مختلفة تُوظفها واشنطن في "معاقبة الخصوم" مثل فرض سقف أسعار على النفط الروسي، أو القيود على الصادرات التكنولوجية الصينية، وكذلك الحرمان من أنظمة الدفع العالمية.. إلخ
وفيما شهدت نتائج تلك العقوبات وتوظيف أدوات الهيمنة الاقتصادية المختلفة تفاوتاً طبقاً لظروف كل ملف على حدة، إلا أن هذا "الكارت الأميركي" تغامر واشنطن بفقدانه في ضوء توسعها في استخدامه على نحو واسع، ومع تبني عدة دول مسارات مختلفة يُمكن من خلالها "التحايل" على تلك العقوبات، والابتعاد بعيداً عن الهيمنة الأميركية.
ومع الجهود الرامية إلى "كسر هيمنة الدولار" عبر التبادلات الثنائية أو متعددة الأطراف بالعملات الوطنية، ودور التكتلات الإقليمية والدولية الحديثة وأهدافها الطموحة في إعادة ترتيب النظام الاقتصادي العالمي، وبما يشكل تهديداً واضحاً لواشنطن وأسلحتها.
يأتي ذلك في وقت تواجه فيه واشنطن معارضة متنامية للأدوات الاقتصادية ضمن أجندتها الخارجية، بما في ذلك معارضة من جانب بعض الحلفاء الذين يعانون -في بعض الأحيان- من ارتدادات تلك العقوبات على اقتصاداتهم، سواء بشكل مباشر وغير مباشر، وكذلك اللغط الذي تثيره "النتائج المعاكسة" لتلك العقوبات في بعض الأحيان، وبما يؤدي إلى مفاقمة الأزمات لا حلها، مثلما هو الحال فيما يتصل بالعقوبات المفروضة على إيران على سبيل المثال.
اقرأ أيضاً: أميركا تحذر الصين من "عواقب وخيمة" لشركات خاصة تساعد روسيا
ومن خلال "السبل البديلة" و"التحايلات" التي يلجأ إليها بعض الدول المستهدفة، يفقد سلاح العقوبات فاعليته بشكل نسبي، لا سيما مع عديد من الثغرات التي يتم استغلالها.
"استخدام العقوبات بشكل كبير ازداد خلال العقدين الماضيين. وفي الوقت الحاضر، تؤثر العقوبات على 54 دولة و29% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. والولايات المتحدة هي إلى حد بعيد الجهة الرائدة في فرض العقوبات"، بحسب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هاملتون في نيويورك، آلان كفروني، في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية.
ويوضح أن انتشار العقوبات الثانوية يعكس بوضوح القوة الاقتصادية الهيكلية الهائلة للولايات المتحدة القائمة على تفوق الدولار وحجم ومركزية السوق الاستهلاكية الأميركية.
ومع ذلك، فإن "هناك إجماع عام بين المراقبين الأكاديميين على أن العقوبات نادراً ما تؤثر على سلوك الدول المستهدفة، حتى عندما تفرض في كثير من الحالات تكاليف باهظة على شعوب هذه البلدان"، بحسب كفروني، الذي يلفت في الوقت نفسه، إلى أنه يمكن أن تفرض العقوبات تكاليف باهظة على الحلفاء أيضاً، كما يتضح من تأثير العقوبات الأميركية على إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، على الشركات الأوروبية.
ويضيف: أصبحت الدول المستهدفة قادرة بشكل متزايد على التحايل على العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. وهناك اتجاه تدريجي للابتعاد عن استخدام الدولار في التجارة الدولية (في إشارة إلى اتفاقات التبادل بالعملات المحلية بين عدد من الدول، والمنظمات الإقليمية الهادفة إلى تبني تبادلات تجارية بالعملات المحلية، أو إطلاق عملة مشتركة). ويلفت الأكاديمي الأميركي في هذا السياق تحديداً إلى مجموعة BRICS.
هذه الخطوات من شأنها مقاومة العقوبات والتصرف بشكل مستقل عن واشنطن بطرق أخرى من جانب الدول الساعية للهرب من هيمنة الدولار.
ويرجع هذا جزئياً –في تصور كفروني- إلى هشاشة الدولار، وفي ظل الدين الوطني الأميركي الذي يتجاوز 33 تريليون دولار. كذلك يرجع أيضاً إلى الاتجاه نحو التعددية القطبية. وهنا تجربة روسيا تدل على ذلك.
اقرأ أيضاً: الرئيس التنفيذي لشركة نوفاتك الروسية: العقوبات الأمريكية تدل على احترافيتنا
"في أعقاب الحرب في أوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر فبراير من العام الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن العقوبات ستحول الروبل إلى ركام (في إشارة لانهيار العملة الروسية المحتمل) ومع ذلك، أثبت الاقتصاد الروسي مرونته، حيث سجل نمواً كبيراً خلال العام الجاري 2023. وتم إعادة توجيه صادرات النفط والغاز إلى الصين والهند، على أن تقوم الأخيرة بعد ذلك بإعادة تصدير النفط إلى أوروبا.. كذلك قاومت المملكة العربية السعودية دعوات بايدن لتوسيع إنتاج النفط لخفض الأسعار، وخفض سعر وحجم صادرات النفط الروسية".
وفي الوقت نفسه، فمن خلال قطع السوق الروسية الكبيرة عن الشركات الأوروبية وزيادة تكاليف الطاقة نتيجة لقطع علاقات الطاقة الألمانية الروسية، ألحقت العقوبات ضرراً شديداً بأوروبا، وخاصة ألمانيا (أكبر اقتصاد أوروبي).
تشير أحدث البيانات الرسمية في روسيا، إلى نمو الاقتصاد بنسبة 5.5% على أساس سنوي في الربع الثالث، بحسب وكالة الإحصاء الفيدرالية "روستات".
وفي أغسطس/ آب الماضي رفع وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف، من توقعات النمو لاقتصاد بلاده المتضرر من العقوبات والذي انكمش العام الماضي، لينمو بقوة أكبر هذا العام مما كان متوقعها قبل بضعة أشهر.
ويشير كفروني هنا إلى ديناميكية مماثلة فيما يتعلق بالعقوبات الأميركية على شركات التكنولوجيا الصينية. ويبدو من غير المرجح أن تنجح الجهود الرامية إلى احتواء تطوير الصين لأشباه الموصلات في الأمد البعيد.
ولم تخلف العقوبات الصارمة المفروضة على شركة HUAWEI (عملاق التكنولوجيا في الصين) سوى تأثير محدود على نموها على المدى الطويل، في حين أثارت مقاومة من جانب الدول والشركات الأوروبية.
ويشار هنا إلى القضية المثارة أخيراً بخصوص "انتهاكات روسية" لسقف الأسعار المحدد من جانب دول مجموعة السبع وأستراليا ودول الاتحاد الأوروبي، والتي دفعت واشنطن لمخاطبة 30 شركة لإدارة السفن "يشتبه في كونها تقوم بنقل النفط الخام الروسي بسعر أعلى من الحد الأقصى المحدد من الغرب (سقف الأسعار)"، بحسب ما نقلته "رويترز" عن مصدر اطلع على المخاطبات.
اقرأ أيضاً: إخطارات أميركية لـ 30 شركة لإدارة السفن.. ما علاقة "النفط الروسي"؟
تعكس هذه الزاوية جانباً من عمليات التحايل التي يتم اللجوء إليها في مواجهة الأسلحة الاقتصادية عموماً التي يتم استخدامها لمعاقبة خصوم واشنطن، علاوة على المعلومات المتداولة بشأن استخدام موسكو خدمات الشحن والتأمين للبيع بما يزيد عن الحد الأقصى، وغيرها من المنافذ والثغرات.
يضاف إلى ذلك عديد من الأمثلة المرتبطة بالهروب من وطأة العقوبات بأدوات مختلفة، لا سيما فيما يتعلق بصادرات النفط. ففي شهر فبراير/ شباط الماضي، على سبيل المثال فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على شركات اتهمتها واشنطن بالقيام بدور في إنتاج وبيع وشحن البتروكيماويات والنفط الإيراني إلى مشترين في آسيا.
والقائمة تطول لعديد من النماذج والأمثلة الأخرى في قطاعات مختلفة، من بينها على سبيل المثال قطاع التكنولوجيا،في وقت تواترت فيه أنباء قبيل شهور عن تحايل HUAWEI على العقوبات من خلال بناء منشآت سرية لتصنيع أشباه الموصلات تحت اسم شركات أخرى.
"الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تتمتع بقدر كبير من القوة الاقتصادية عندما تفرض العقوبات، ولكن بمرور الوقت تتآكل عديد من العقوبات، حيث تكتشف الأهداف سبلاً لتجنبها.. ويصبح هذا التهرب أسهل في عالم متكامل اقتصادياً".. هذا ما يؤكده في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية، استاذ الاقتصاد السياسي الدولي في School of International Service بالجامعة الأميركية، مايلز كالر، والمتخصص في الحوكمة العالمية والتعاون النقدي والمالي الدولي والإقليمي.
وبحسب الأكاديمي الأميركي الذي يركز مجاله البحثي على "الدور المتغير للاقتصادات الناشئة في السياسة العالمية"، فإن "هناك حجة قوية مفادها أن الولايات المتحدة تنشر العقوبات الاقتصادية بسهولة أكبر مما ينبغي، دون توفير مقياس واضح لإزالة العقوبات عندما يغير الهدف (الجهة المطبقة عليها العقوبات) سياساته".
ولضمان نجاح العقوبات مع مرور الوقت، يتعين على الولايات المتحدة تجنب الإفراط في استخدامها، واستهدافها بشكل واضح الأفراد والأنظمة المسيئة، إضافة إلى تجنب العواقب السلبية على شعوب بأكملها قدر الإمكان، وفق كالر، الذي يشدد في الوقت نفسه على ضرورة أن تتخذ حكومة الولايات المتحدة أيضاً تدابير إضافية لمنع التدفقات المالية غير المشروعة التي تعمل على تمكين المتهربين من العقوبات، وهي التدفقات المالية التي غالباً ما تجد موطنها في المراكز المالية الأميركية والأوروبية.
والأهم من ذلك: ستكون العقوبات أكثر نجاحاً عندما تكون متعددة الأطراف، وتمثل أوسع تحالف دولي ممكن، وتستند إلى قواعد ومعايير مقبولة دولياً ومنظمات دولية، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في تقدير استاذ الاقتصاد السياسي الدولي.
وتأتي إيران من بين أبرز الدول التي تعرضت للعقوبات الأميركية، لا سيما منذ العام 1979 رداً على "الثورة الإيرانية" آنذاك، وحتى توسعت تلك العقوبات بشكل أوسع في السنوات الأخيرة، وارتبطت بالبرنامج النووي وملف "حقوق الإنسان" وغيره من الملفات.
كذلك تأتي كوريا الشمالية، والتي تعرضت للعقوبات الأميركية منذ العام 1950، وقد ارتبطت بالبرنامج الكوري الشمالي للأسلحة النووية وملف حقوق الإنسان أيضاً. بخلاف العقوبات الأميركية على كوبا في 1958، والعقوبات على فنزويلا في 2019، وغير ذلك.
ومن الدول العربية التي فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات، كانت سوريا، منذ العام 1986 وحتى بعد الأحداث الأخيرة المرتبطة بالحرب هناك. وكذلك السودان منذ العام 1993 وبخصوص ملفات حقوقية وكذلك الحرب في دارفور، وقد رفعت معظم العقوبات في أكتوبر 2017.
وكان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، قد وقع في الثاني من شهر أغسطس/ آب 2017 قانون "مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات" والذي تم بموجبه فرض عقوبات على إيران وكوريا الشمالية وروسيا.
من جانبه، يقول خبير العلاقات الدولية، الدبلوماسي السابق، مسعود مخلوف، في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية، إن سلاح العقوبات الذي استعملته الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة منذ حوالي عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن تحديداً لم يجدي نفعاً، مستشهداً بشكل خاص بالعقوبات التي فرضتها واشنطن على إيران لأسباب كثيرة، بينما الأخيرة لم تغير قيد أنملة من سياستها.
كذلك حاولت الولايات المتحدة فرض عقوبات قوية على كوريا الشمالية لكي لا تقوم هذه الدولة بتطوير سلاحها النووي، ونعرف الآن أن كوريا الشمالية هي دولة تملك السلاح النووي بصرف النظر عن العقوبات القاسية التي فرضتها عليها واشنطن!
كذلك الحال بالنسبة إلى العراق أيام الرئيس السابق صدام حسين، وأخيراً الآن بالنسبة لروسيا، وفق مخلوف الذي يشير إلى أن واشنطن سعت في الماضي إلى فرض عقوبات قوية على دول لكي تغير هذه الدول سياستها "ولكن كما رأينا وكما يدلنا التاريخ الحديث جداً، هذه العقوبات لم تجدي نفعاً".
ويضيف: "من هذا المنطلق أعتقد بأن الطريقة الفضلى هي أنه لن لا تقوم أية دولة كبرى بالسعي إلى فرض إرادتها على دول أخرى إلا عند مسألة الدفاع عن النفس، أي إذا تعرضت مصالح تلك الدولة الكبرى بصورة مباشرة لأضرار واسعة أو إذا حدثت اعتداءات على أراضيها وغير ذلك من الأمور".
ويمكن للدولة أن تسعى إلى حل هذه الأمور بالطرق السلمية، عبر المفاوضات، إما ثنائياً مع الدولة التي لها مشكلة معها أو أيضا بطريقة جماعية عبر الأمم المتحدة أو مع بعض الدول التي لديها نفس الطريقة في التفكير "مثلاً بالنسبة للولايات المتحدة يمكن أن تتعاون مع الاتحاد الأوروبي وتقوم بالتفاوض مع الدولة التي تتضرر منها واشنطن (..)".
ومن أجل التأكيد على أن العمل الدبلوماسي يعطي نتيجة أفضل من العقوبات، يُذكر خبير العلاقات الدولية كيف أن العقوبات على إيران والتي ارتبطت بالملف النووي لم تجدي نفعاً ولكن الذي أتى بثماره هو اتفاق الولايات المتحدة مع الدول الخمس الأخرى (مجموعة 5+1، مجموعة الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا) وقد وصلت هذه الدول إلى اتفاق مع إيران بعد مفاوضات دامت سنتين، منحت طهران بعض الامتيازات من بينها تخفيف العقوبات، قبل أن يأتي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وينسحب من هذه الاتفاقية ويفرض عقوبات إضافية على إيران.. ثم كانت النتيجة أن طهران تقدمت كثيراً في تطورها النووي (..)".
يأتي ذلك علاوة على الآثار الأوسع للعقوبات الاقتصادية على الاقتصاد الدولي، وهو ما لفت إليه تقرير نشره "صندوق النقد الدولي" يونيو/ حزيران الماضي، ذكر أن "العقوبات الاقتصادية تنشأ عنها صدمات عالمية أكبر من أي وقت مضى ويسهل تجنبها". واستشهد بالوضع بالنسبة لروسيا، حيث أنها من كبار مصدري النفط والحبوب وغيرهما من السلع الأولية الأساسية الأخرى (في إشارة لانعكاسات العقوبات على كثير من الأسواق المتضررة من العقوبات المفروضة على موسكو).
كما يأتي ذلك أيضاً فيما "أصبح الاقتصاد العالمي أكثر تكاملا إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، أصبح للعقوبات حاليا تداعيات اقتصادية عالمية أكبر كثيرا مما عهدناه من قبل. وينبغي أن يكون حجم هذه العقوبات دافعا لإعادة النظر في مفهوم العقوبات كأداة قوية من أدوات السياسات لما ينشأ عنها من تداعيات اقتصادية عالمية ملموسة"، بحسب التقرير المشار إليه، والذي كتبه الأستاذ المساعد في التاريخ الأوروبي الحديث بجامعة كورنل، نيكولاس مولدر.
تابعونا على منصات التواصل الاجتماعي